رفضت حكومة الجمهورية العربية السورية حضور مؤتمر جنيف الذي انعقد يومي 21 و22/12/1973 اثر حرب 1973* محتجة بأن الظروف والمناورات السياسية التي أحاطت به جعلته قاصرا عن أن يكون مؤتمر سلام حقيقي يعمل على استعادة الحرب جميع أراضيهم المحتلة والمحافظة على حقوق الشعب العربي الفلسطيني. ولكنها في الوقت نفسه قامت بنشاط دبلوماسي مكتف لشرح موقفها ساعية جهدها لاستبعاد انفراد أية دولة من دول المواجهة بحل جزئي سيؤدي حتماً إلى إضعاف الموقف العربي العام.
وكان غرض الولايات المتحدة الأمريكية من سياسة “الخطوة خطوة” لحل أزمة نزاع العربي – الإسرائيلي تحقيق تهدئة متدرجة وجر العرب إلى اتفاقات ثنائية مع العدو الصهيوني يتخلون فيها عن التضامن العربي الذي يصعب بدونه الوصول إلى الأهداف العربية المرحلية في شأن القضية الفلسطينية، وخاصة ما أقر منها في مؤتمرات القمة العربية*.
وعلى الرغم من وعي القيادة السياسية السورية هذه الحقيقة رأت في الوقت نفسه إمكانية الإفادة من ظروف المرحلة مع السعي دوما للمحافظة على الهدف النهائي. ولذلك بدأت الحكومة العربية السورية محادثاتها الأولية لتحقيق خطوة ما على الجبهة السورية مع وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر الذي وصل إلى المنطقة في 20/1/1974. وأوضحت سورية موقفها في تصريح وزير خارجيتها يوم 21/1/1974. وقد جاء فيه “أن سورية تقبل مثل هذا الترتيب إذا كان مرحلة أولى للانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية وضماناً لحقوق شعب فلسطين”.
وعندما زار الوزير الأمريكي (إسرائيل) تبين له عمق الهوة الفاصلة بين الموقفين السوري والإسرائيلي وتشنج (إسرائيل) ورفضها البدء بأية مفاوضات قبل حل مسألة الأسرى. ولذلك قرر التريث إلى أن تتم تهيئة ظروف النجاح وغادر المنطقة عائداً إلى بلاده ليعلن من هناك عزمه على متابعة الجهود لتقريب النظر بين الطرفين.
ركزت الولايات المتحدة الأمريكية جهودها في تلك المرحلة على اقناع الدول العربية بإلغاء الحظر المفروض على تصدير النفط. ووجدت بالتالي أن نجاح مهمة وزير خارجيتها في ترتيب لتفاق لفصل القوات سيكون له دور أساسي في تحقيق هدفها. وأطلق الرئيس الأمريكي نيكسون في الوقت نفسه تحذيراً أكد فيه: إن الإبقاء على حظر النفط سيفسر على أنه نوع من الابتزاز، مما سيؤثر على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في الشرق الأوسط”. ورغم المساعي التي بذلتها الدول العربية على الرئيس الأمريكي مصراً على موقفه بالفصل بين مسألتي رفع الحظر النفطي وعلى المشكلات العالقة. ومما شجعه على ذلك الدور الذي بدأ يؤديه الرئيس المصري أنور السادات والذي تمثل بمحاولته إقناع الدول النفطية بحياد واشنطن وضرورة القيام بخطوة نفطية إيجابية في مؤتمر وزراء النفط العرب المقرر عقد في 23/2/1974 لإظهار النيات الحسنة إزاءها ومكافأتها على الجهود التي تبذلها لتحقيق السلام.
وفي 26/2/1974 وصل كيسنجر إلى دمشق ليبدأ من جديد مباحثات وسط جو متوتر بسبب تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي موشي دايان بأن “الوجود الإسرائيلي في الجولان ضرورة استراتيجية بالنسبة لإسرائيل”، بالإضافة إلى أن المدفعية السورية كانت قد بدأت يوم 26/1/1974 تقصف المواقع الإسرائيلية كلما حاولت وقوات العدو زيادة تحصينها أو تعزيزها بقوات جديدة.
وبعد محادثات مكثفة بين الجانبين السوري والأمريكي، وإظهاراً لحسن نية سورية مع تمسكها بكامل حقوقها، أعطي كيسنجر لائحة بأسماء الأسرى الإسرائيليين فحملها معه إلى (إسرائيل) مع وعد من القيادة السورية بالسماح للصليب الأحمر الدولي بزيارتهم بدءاً من مطلع شهر آذار 1974.
ولكن الوضع في (إسرائيل) لم يكن مريحا لرئيسة الحكومة غولدا مائير نظراً لاشتداد الخلاف حول اتفاقية فصل القوات بين مصر وإسرائيل* في سيناء بين تجمع المعراخ* الحاكم آنئذ وتجمع الليكود* المعارض، ولتصاعد المعركة الإعلامية بين الطرفين وانتقالها إلى صفوف الجيش إذ رفع أنصار الاتفاق شعار تأييد الحكومة في حين رفع الطرف الآخر شعار “جيش منتصر وحكومة مهزومة”. وكان على الحكومة الإسرائيلية بالتالي إظهار التعنت والتصلب في موقفها. ولم يطل الأمر بكيسنجر فقرر العودة إلى بلاده.
حاولت (إسرائيل) بغية ترميم وضعها الداخلي وتسهيل مهمة مائير بإعادة تشكيل الوزارة إثاره خطر خارجي يهددها، فبدأت تحصن مواقعا المحتلة على الجبهة السورية. وردت القوات السورية على ذلك بقصف عنيف ولا سيما في منطقتي تل الفرس والرفيد في الجولان. واستغلت (إسرائيل) الموقف معلنة حال الطوارىء باسم “الوضع الأمني الجديد، واستعداد سورية للهجوم” على غرار هجوم السادس من تشرين الأول 1973، فتخلت المعارضة عن موقفها ونجحت مائير في إعادة تشكيل وزارتها.
وأمام التعنت الإسرائيلي وانحياز الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب العدو الصهيوني ومناورات كيسنجر لتمييع القضية وكسب الوقت ريثما يحقق شرحاً سياسياً في المعسكر العربي، وأمام وعي سورية بأن توازن القوى لا يسمح لها بشن هجوم شامل، قررت سورية اللجوء إلى أسلوب آخر يتمثل في التفاوض السياسي وتسخين الموقف العسكري على الجبهة ويتم دفن تخطيط سوري بمسك بزمام المبادرة ولا يبدو رد فعل على الأعمال الإسرائيلية.
وفي تلك الفترة قرر وزراء النفط العرب بالأكثرية رفع الحظر النفطي عن أمريكا يوم 18/3/1974 لاجتذابها نحو سياسة أكثر توازناً. وأثر هذا القرار بشكل سلبي على موقف سورية في المفاوضات الجارية، ولكنه لم يثنها عن عرضها على تبني الضغط العسكري وسيلة. وبدأت حرب استنزاف امتدت من 12/3/1974 حتى 31/5/ 1974 واشتركت فيها القوات البرية والجوية (رَ: الاستنزاف السورية – الإسرائيلية، حرب -).
وبتاريخ 10/4/1974، وبينها كانت حرب الاستنزاف في أوجها، استقالت حكومة غولدا مائير وظهر اسحق رابين مرشحا لتشكيل الحكومة الجديدة. وقد وجدت واشنطن أن وصول السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة إلى الحكم وغياب مائير التي فقدت رصيدها السياسي يسبب هزة حرب تشرين سيجعلان تحريك الموقف والخروج من حالة الجمود أكثر سهولة فبدأ هنري كيسنجلا جولة جديدة في المنطقة. وقد حرص قبل وصوله على الاجتماع بوزير خارجية الاتحاد السوفييتي أندريه غروميكو وأجرى معه مباحثات، أكد خلالها الدور الذي يمكن لموسكو أن تقوم به في المباحثات الجارية للتوصل إلى اتفاقية لفصل القوات في الجولان كي لا تنفرد واشنطن بالجهود المبذولة كما حصل إبان محادثات فصل القوات في سيناء (فصل القوات بين مصر وإسرائيل، اتفاقية 1974). وزار كيسنجر بعد ذلك الجزائر ومصر ووصل إلى (إسرائيل) يوم 1/5/1974، ثم انتقل إلى دمشق ومنها إلى القاهرة، وتابع رحلاته المتعددة بين سورية و(إسرائيل) محاولاً ردم الهوة العميقة بين موقفي البلدين.
وقد لجأ كيسنجر خلال جولاته إلى الرئيس السادات للضغط على دمشق واقناعها بتقديم التنازلات. وحاول تبديل موقف الحكومة الإسرائيلية بعدة رسائل شخصية موجهة من الرئيس نيكسون إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه كرر كيسنجر القول بأن أي فشل قد تمنى به الوساطة الأمريكية سيؤدي إلى نتائج خطرة وامكان نشوب جحرب جديدة في المنطقة تتورط فيها الدولتان العظميان.
ولم تكن موسكو بعيدة عما يجري في المباحثات. فقد قام غروميكو بزيارة دمشق يومي 5 و6 أيار لبحث القضايا المتعلقة بفصل القوات وتسوية النزاع في المنطقة مؤكداً دعمه للموقف السوري المتمثل بأن السلام العادل والدائم في المنطقة يجب أن يرتكز على أساس الانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة وضمان الحقوق الوطنية الثابتة للشعب العربي الفلسطيني. وبتاريخ 7 أيار، وأثناء عودة غروميكو إلى بلاده، التقى بكيسنجر في قبرص وصدر اثر الاجتماع بيان مشترك جاء فيه أن فصل القوات في الجولان “جزء من القضية العامة لمسألة تحقيق تسوية في الشرق الأوسط”. وكانت هذه الفترة انتصاراً سياسياً لوجهة النظر السورية القائلة بأن أية خطوة تتم في إطار فصل القوات أو غيره يجب أن تكون جزءاً من حل شامل يضمن الحقوق العربية.
تابعت سورية العمل العسكري والمساعي السياسية في آن معاً، وبذل كيسنجر جهوداً إضافية للوصول إلى حل لأن فشله يعني بالنسبة إليه زيادة اهتزاز موقفه وموقف الرئيس نيكسون داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ولا سيما في جو فضيحة وترغيت، كما يعني إضعاف موقف من دعاهم “الزعماء العرب المعتدلين” وتقوية موقف المتصلين منهم والنفوذ السوفيييتي في المنطقة، وإعادة طرح مسألة حظر النفط مع احتمال اندلاع الحرب مجدداً على نطاق واسع.
مدد كيسنجر إقامته في المنطقة مرة تلو أخرى وسارت المفاوضات ببطء شديد بسبب إصرار (إسرائيل) على الاحتفاظ بالأراضي المحتلة وتمسكها بالمستعمرات التي أقامتها ومناوراتها للبقاء في المواقع الاستراتيجية وإصرار سورية على مبدأ الانسحاب الكامل.
وبعد 31 يوماً قطع خلالها وزير الخارجية الأمريكية نحو 35 ألف كيلومتر وأجرى حوالي 170 ساعة محادثات أعلن اللرئيس ريتشارد نيكسون يوم 29/5/1974 التوصل إلى اتفاق لفصل القوات في الجولان. وجرى توقيع الاتفاقية في جنيف يوم 31/5/1974 تحت راية الأمم المتحدة بحضور المنسق العام لقوات الطوارىء الدولية في المنطقة والسفير السوفييتي والسفير الأمريكي وممثل الأمين العام للأمم المتحدة. وحتى لا تعطى الاتفاقية صبغة سياسية أصرت سورية على أن بوقعها ممثلون عسكريون وأن يكون الممثل العسكري السوري من ضمن مجموعة العمل المصرية. وبعد 30 دقيقة من توقيع الاتفاقية تم وقف إطلاق النار على جبهة الجولان وجبل الشيخ وانتهت حرب الاستنزاف التي دامت 81 يوماً.
وقد نشرت الصحف النص الرسمي للاتفاقية وأهم ما تضمنته:
أ- تفصل القوات العسكرية (لإسرائيل) وسورية وفقاً للمبادىء التالية:
1) تكون كل القوات العسكرية الإسرائيلية غربي الخط المعروف بالخط “آ” المحدد على خريطة رافقت الاتفاقية، باستثناء مدينة القنيطرة التي تقع شرقي هذا الخط.
2) تكون كل الأراضي شرقي الخط “آ” تحت الإدارة السورية ويعود المدنيون السوريون إلى هذه الأراضي.
3) تكون المنطقة بين الخط “آ” والخط “ب” منطقة فصل وترابط في هذه المنطقة قوة مراقبي فصل القوات التابعة للأمم المتحدة.
4) تكون كل القوات العسكرية السورية شرقي الخط “ب”.
5) تكون هناك منطقتان متساويتان لتحديد الأسلحة والقوات فيهما، واحدة غرب الخط “آ” “والأخرى شرق الخط “ب”.
6) يسمح لسلاحي جو الجانبين بالعمل حتى خط كل منهما (الفترة السابقة) بدون تدخل من الجانب الآخر.
ب- لن توجد قوات عسكرية في المنطقة بين الخط “آ” و”ا-1″.
ج- يجري تفتيش أحكام الاتفاقية من قبل أشخاص الأمم المتحدة الذين ييشكلون قوة مراقبة فصل القوات التابعة للأمم المتحدة.
د- في غضون 24 ساعة بعد توقيع هذه الاتفاقية في جنيف يعاد جميع أسرى الحرب الجرحى الذين يحتفظ بهم كل من الجانبين إلى الجانب الآخر بشهادة اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
وقد أكدت الاتفاقية إنها ليست اتفاقية سلام، بل هي خطوة نحو سلام عادل ودائم استناداً إلى قرار مجلس الأمن ذي الرقم 338 المؤرخ 22/10/1973.
وقد ألحق بهذه الاتفاقية بروتوكول يتعلق بتشكيل “قوات مراقبي فصل القوات التابعة للأمم المتحدة” وعندها 1.250 رجلاً من بلدان أعضاء في الأمم المتحدة لا يملك عضوية دائمة في مجلس الأمن، وتكون مدة عملها ستة أشهر قابلة للتحديد بقرار من مجلس الأمن، ومهمتها مراقبة تنفيذ بنود الاتفاقية وتفتيش مناطق تخفيض القوات.
وقد وافقت الحكومة السورية على الاتفاقية كما وافقت عليها الحكومة الإسرائيلية، وتم بذلك التوصل إلى اتفاق عسكري بحيث انسحبت (إسرائيل) بموجبه من القنيطرة وجيب سعسع، وجرى تبادل الأسرى بعد حرب استنزاف سورية (لإسرائيل) كانت أداة عسكرية ضاغطة خلال الحوار السياسي.
المراجع:
- شؤون فلسطينية، العدد25، بيروت تموز 1974.
- قضايا عربية: العدد 3، بيروت حزيران 1974.