قام هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي بزيارة موسكو قبل أن يتوقف القتال بين القوات العربية والقوات الاسرائيلية في حرب 1973*. وقد اتفق الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خلال هذه الزيارة على دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد من أجل إيقاف إطلاق النار، وكانت مصر قد أعلنت رغبتها في ذلك.
قدمت الدولتان المذكورتان مشروع قرار وافق عليه مجلس الأمن وصدر يوم 22/10/1973 برقم 338. وقد تضمن القرار دعوة “جميع الأطراف المشتركة في القتال جانباً إلى وقف إطلاق النار بصورة كاملة، وإنهاء جميع الأعمال العسكرية في هذا لا تتجاوز 12 ساعة من لحظة اتخاذ هذا القرار، وفي المواقع التي تحتلها الآن”.
أعلنت مصر و(اسرائيل) قبولهما بالقرار فور صدوره، ثم أعلنت سورية يوم 24 تشرين الأول قبولها بالقرار ضمن شروط محددة (رَ: حرب 1973 في الأمم المتحدة).
استمر وقف إطلاق النار عدة ساعات على الجبهة المصرية عادت بعدها (إسرائيل) إلى متابعة عدوانها فقصفت مدينة السويس بنيران كثيفة وعززت قوتها في ثغرة الدفرسوار، فعقد مجلس الأمن اجتماعاً ثانياً يوم 23 تشرين الأول وأصدر قراره رقم 329 الذي يقضي بوقف إطلاق النار وعودة الأطراف إلى مواقع 22 تشرين الأول. ولكن (إسرائيل) تابعت انتهاكها لقراري مجلس الأمن واستمرت في إطلاق النار والتقدم في الأراضي المصرية ومحاصرة مدينة السويس والجيش المصري الثالث.
ولما كان الموقف الناجم عن استمرار (إسرائيل) في رفض الانصياع لقراري مجلس الأمن خطيراً اجتمع المجلس يوم 25 تشرين الأول وأصدر قراراً ثالثا برقم 340 كرر فيه دعوته الأطراف إلى الوقف الكامل والفوري للنار وقرر “أن يتم، فوراً وتحت سلطته، إنشاء قوة طوارىء تابعة للأمم المتحدة يتم تشكيلها من أفراد تقدمهم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ما عدا الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن”.
توقف إطلاق النار على الجبهة المصرية إثر صدور هذا القرار. ودعا الجنرال أنزيو سلاسفيو قائد قوة الطوارىء الدولية الطرفين إلى اجتماع للبحث في الترتيبات الخاصة بوقف إطلاق النار. وهكذا تم عقد الاجتماع الأول في حيفا نصبت عند الكيلو 101 على طريق القاهرة – السويس ودفع عليها علم الأمم المتحدة. وقد ترأس الجانب المصري اللواء محمد عبد الغني الجمسي رئيس أركان القوات المسلحة وترأس الجانب الإسرائيلي أهارون باريف. وتمت الاجتماعات بإشراف الجنرال أنزيو سلاسفيو ممثلاً للأمم المتحدة.
استمر الاجتماع طوال ليلة 28 تشرين الأول ونوقشت فيه مسألة الأسرى وجرحى الطرفين، ومسألة تزويد مدينة السويس والجيش الثالث المصري بالمواد الغذائية وماء الشرب، وجرى بحث المواقع التي سترابط فيها قوات الطوارىء الدولية، وحاول الطرفان تحديد خطوط 22 تشرين الأول لتنفيذ قرار مجلس الأمن، ولكن (إسرائيل) ماطلت في تحديد هذه الخطوط لأن معناه الانسحاب وفك الحصار عن مدينة السويس وعن الجيش المصري الثالث، وبالتالي خسران ورقة ضغط رابحة تساوم بها مقابل أسراها لدى مصر.
استمرت الاجتماعات العسكرية بغير نتيجة حتى وصل هنري كيسنجر إلى القاهرة يوم 5/11/1973 وعقد اجتماعات مطولة منفردة مع الرئيس أنور السادات من 6 إلى 8 تشرين الثاني. وفي أثناء ذلك وصل مساعده جوزيف سيسكو إلى (إسرائيل). وفي يوم 8 تشرين الثاني أعلن عن توصل الطرفين المصري والإسرائيلي تحت إشراف كيسنجر إلى اتفاق من ست نقاط تضمن:
1) التزام الطرفين بوقف إطلاق النار.
2) بدء المحادثات للعودة إلى خطوط 22 تشرين الأول.
3) حصول مدينة السويس على المواد الغذائية وإجلاء الجرحى عنها.
4) موافقة (إسرائيل) على نقل مواد غير عسكرية إلى الجيش المصري الثالث.
5) استبدال نقاط تفتيش تابعة للأمم المتحدة بنقاط تفتيش الإسرائيلية على طريق القاهرة – السويس.
6) تبادل جميع أسرى الحرب بعد إقامة هذه النقاط.
وذكر أن في الاتفاق بنداً سرياً تضمن تعهد مصر برفع الحصار عن باب المندب رفضت مصر الإعلان عنه لأنها لم تكن قد أعلنت رسمياً قبل ذلك عن حصار باب المندب. وفي 11 تشرين الثاني اتفق الجانبان على إيقاف إطلاق النار. وفي يوم 14 تشرين الثاني اتفقا على تبادل الأسرى بادئين بتبادل أسرى حرب الاستنزاف خلال عامي 1969 و1970 (رَ: الاستنزاف المصرية –الإسرائيلية، حرب). وفي يوم 18 تشرين الثاني عقد اجتماع بين الجانبين لتحديد خطوط 22 تشرين الأول.
تكررت زيارات كيسنجر لبلدان المنطقة العربية في هذه الفترة بغية التوصل إلى حل حول قضية فصل القوات. وخلال هذه الجولات تم الاتفاق بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة والأمين العام للأمم المتحدة على الدعوة إلى عقد مؤتمر جنيف يوم 21/12/1973 بحضور مصر (إسرائيل) والأردن. وقد رفضت سورية حضور المؤتمر لأن الدعوة لم توجه إلى منظمة التحرير الفلسطينية*، ولأن الهدف من عقد هذا الاجتماع لم يكن سوى التصديق على ما تم الاتفاق عليه بين مصر و(إسرائيل).
عقد المؤتمر ثلاث جلسات لم يصل فيها إلى نتيجة بسبب اختلاف الآراء. وتقرر في الجلسة الثالثة تشكيل لجنة عسكرية لبحث مسألة فصل القوات المصرية – الإسرائيلية. ثم تقرر تأجيل المؤتمر إلى بداية سنة 1974 (رَ: مؤتمر السلام للشرق الأوسط).
عقدت اللجنة العسكرية المصرية – الإسرائيلية عدة اجتماعات باشراف الأمم المتحدة لم تتوصل خلالها إلى حل يتفق عليه. وأثناء هذه الفترة بدأ هنري كيسنجر جولة “مكوكية” بين أيوان وتل أبيب استمرت من 12 إلى 19/1/1974 ونجم عنها صدور بيان مساء يوم 17 كانون الثاني في تل أبيب والقاهرة وواشنطن أذاعه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بنفسه، وقد أعلن البيان الاتفاق على فصل القوات المصرية – الإسرائيلية. ثم تم التوقيع على الاتفاقية يوم 18 كانون الثاني في خيمة الكيلومتر 101 من قبل الجمسي ودافيد اليعازر رئيس أركان الجيشين المصري والإسرائيلي وأنزيو سيلاسفيو والمستشار القانوني لوزارة الخارجية الأمريكية وعضو مجلس الأمن القومي الأمريكي.
تضمنت الاتفاقية احترام الطرفين لوقف إطلاق النار في البر والبحر والجو وانسحاب (إسرائيل) من ثغرة الدفرسوار ومن شريط ضيق شرقي القناة ورابطة قوات الطوارىء الدولية بين الطرفين وقيامها بالتفتيش لضمان دقة تنفيذ الاتفاقية.
وتم التوقيع على الاتفاقية بشكل نهائي يوم 24 كانون الثاني بعد تحديد مراحل الانسحاب الإسرائيلي بخمس بدأت الأولى يوم 25/1/1974 بسحب (إسرائيل) قواتها من الأدبية والسويس وانتهت يوم 28 كانون الثاني. وكانت المرحلة الثانية من 28 كانون الثاني إلى 4 شباط انسحبت (إسرائيل) خلالها من المنطقة الصحراوية شمال طريق السويس إلى منطقة متلا شرقاً في سيناء. وأما المرحلة الثالثة فكانت من 5 إلى 12 شباط انسحبت (إسرائيل) خلالها من جنوبي البحيرات حتى فتارة غرباً إلى منطقة الجندي في سيناء شرقاً.
وانسحبت (إسرائيل) في المرحلة الرابعة التي تحددت بين 13 و21 شباط من فايد والدفرسوار. وفي المرحلة الأخيرة التي امتدت من 22 شباط إلى 5 آذار 1974 انسحبت (إسرائيل) من الاسماعيلية والبحيرات المرة إلى الخط المحدد للقوات الإسرائيلية شرقي القناة.
وكان قد تم الاتفاق على أن تمتنع “إسرائيل” عن تخريب المنشآت المدنية التي تنسحب منها. ولكنها فككت مصانع الأسمدة والمصانع الكيمياوية في مداخل السويس وتقلتها إلى داخل الأرض المحتلة تحت ستار الظلام خلال 15 يوماً. وقد أقر الكنيست* الاتفاقية في 22/1/1974.
كانت نتائج الاتفاقية من الناحية العسكرية وجود الجيش الإسرائيلي على بعد 10 كم غربي خط الممرات (مثلا – الجدي) وتخفيض القوات المصرية على الضفة الشرقية من 70 ألف جندي و 700 دبابة إلى 7.000 جندي من دون أسلحة ثقيلة تذكر، ومباشرة مصر تنظيف قناة السويس وترميم مدن القناة استعداداً لفتح القناة للملاحة خلال عام، وعدم تعهد (إسرائيل) بانسحاب آخر، واكتفاء مصر بتصريح من (إسرائيل) لتنفيذ قرار مجلس الأدنى 242 عن طريق المفاوضات، وأخيراً بقاء حقول النفط في سيناء بيد (إسرائيل).
كذلك أدت الاتفاقية إلى فك الحصار عن القوات الإسرائيلية الموجودة في الثغرة وتأمين سلامة أفرادها. وهذه نقطة مهمة كانت تلح عليها (إسرائيل) مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية من ضفة القناة الغربية وفك الحصار عن الجيش الثالث المصري.
أما نتائج الاتفاقية من الناحية السياسية فكانت كما يلي:
1) يعتبر اللقاء المصري – الإسرائيلي ثاني لقاء يتم بين الطرفين بعد اللقاء الأول في رودس عام 1949.
2) جاءت الاتفاقية ثمرة مساعي الولايات المتحدة لإجراء مفاوضات مباشرة مصرية – إسرائيلية. وهو ما كانت تسمى إليه (إسرائيل) وتؤيدها فيه الولايات المتحدة منذ زمن طويل، وبخاصة بعد عدوان حزيران 1967.
3) عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة العربية، ولا سيما إلى ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي، بثقل أكبر من السابق وبتأثير مباشر وفعال على جانبي الصراع، بالإضافة إلى محاولة استبعاد الاتحاد السوفييتي – الرئيس المشارك لمؤتمر جنيف – عن التأثير في المساعي والجهود الهادفة إلى إيجاد حل عادل للصراع ولقضية فلسطين.
4) تعتبر الاتفاقية في نظر (إسرائيل) والولايات المتحدة الخطوة الأولى لحل الصراع الذي طال أمد أكثر من ربع قرن.
5) جاءت الاتفاقية وليدة اختلال توازن القوى في المراحل الأخيرة من حرب تشرين الأول 1973. ذلك الاختلال الذي أحدثته الولايات المتحدة بمسعداتها العسكرية الكثيرة (لإسرائيل) قبل الحرب وأثناءها.
6) تعد الاتفاقية خطوة منفردة قامت بها مصر بمعزل عن الأطراف العربية المشتركة معها في العمليات العسكرية ضد العدو. وبخاصة سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد كان لهذا الانفراد الذي تتابعت خطواته فيما بعد آثار كبيرة وخطيرة على مجمل الصراع العربي – الإسرائيلي، وعلى قضية فلسطين، وعلى التضامن العربي والموقف العربي تجاه هذا الصراع.
المراجع:
- حسن البدري: حرب رمضان، القاهرة 1975.
- مركز الأبحاث: الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة، بيروت 1974.
- موسى صبري: وثائق حرب أكتوبر، القاهرة 1974.