بدأت المحاولة الثانية لفصل القوات بين مصر و(إسرائيل) في بداية سنة 1975 على أثر قيام وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر بعدة جولات “مكوكية” في المنطقة العربية من أجل التوصل إلى تحقيق انسحاب إسرائيل آخر مقاتل تعهد مصري بتخفيف حدة الصراع مع (إسرائيل).
بدأ كيسنجر جولاته في شهر شباط 1975. وقد وصف مهمته تلك بأنها لاستطلاع الآراء والعودة بنتائجها إلى واشنطن لصياغة الموقف الأمريكي. وأكد كيسنجر أسلوب “الخطوة – خطوة” الذي يجب أن يتبع. واستمر تنقله بين مصر وسورية والأردن والسعودية و(إسرائيل) من 9 إلى 19/2/1975 ثم عاد إلى واشنطن. وقد صرح خلال جولاته أن المطلب الإسرائيلي هو إعلان مصر إنهاء حالة الحرب مع (اسرائيل) في مقابل أي انسحاب إسرائيلي آخر. ولكن لم يستطع كيسنجر أن يقرب بين مواقف مصر (وإسرائيل) المساعدة فقد استطاع أن يحصل من شاه ايران لدى اجتماعه به على تعهد بتزويد (إسرائيل) باحتياجاتها النفطية مقابل إعادة حقول نفط أبو رديس إلى مصر.
بدأ كيسنجر جولة أخرى في آذار سنة 1975 استغرقت 17 يوماً. وقد عرضت (إسرائيل) عليه خلال جولته هذه وثيقة من سبع نقاط تضمنت رأيها في الاتفاقية مع مصر. وهذه النقاط هي:
1) أن تكون الاتفاقية اتفاقية منفصلة رسمية مستقلة مع مصر.
2) إعلان (إسرائيل) استدادها للتفاوض مع كل جاراتها.
3) أن تكون الاتفاقية خطوة نحو السلام مع بعض الإجراءات العملية كمرور البضائع الإسرائيلية في قناة السويس.
4) إنهاء المقاطعة الاقتصادية.
5) حرية عبور الأشخاص للحدود.
6) تخلي الطرفين عن حالة الحرب بوضوح وبصيغ قانونية ملائمة.
7) خلق مناطق عازلة حقيقية بين القوات المسلحة.
وقد بينت إسرائيل في وثيقتها هذه أنها مستعدة للبحث في أي انسحاب جديد من سيناء إلا إذا استجابت مصر للبنود السابقة جميعها.
اضطر كيسنجر بعد هذا الموقف الإسرائيلي المتشدد أن يقطع زيارته للمنطقة ويعود إلى واشنطن حيث أعلن عن فشل مباحثاته، وعن عزم الحكومة الأمريكية على إعادة تقويم سياستها في منطقة الشرق الأوسط.
وقد أعلنت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إعادة التقويم، تجميدها المؤقت للالتزامات الأمريكية نحو (إسرائيل)، ولا سيما التزامها بتسليم (إسرائيل) طائرات ف – 15 وصواريخ أرض – أرض من طراز لانس. وكذلك اقترحت تأجيل زيارة كل من ايغال آلون وشمعون بيريس إلى واشنطن وقطع الخط المباشر بين مكتب هنري كيسنجر والسفارة الإسرائيلية في واشنطن. وأعلن الرئيس الأمريكي جيرالد فورد وزير خارجيته كيسنجر في تصريحاتهما الصحفية أنه ليس في الأمكان الاستمرار في تجاهل الفلسطينيين.
كان الهدف الرئيس من هذه الإجراءات والتصريحات انجاح المسعى الأمريكي والضغط على (إسرائيل) لتليين مواقفها في المفاوضات مع مصر. وقد أضاف المسؤولون الأمريكيون إلى ذلك تلويحهم باحتمال العودة في مؤتمر جنيف إذا فشلت المساعي الأمريكية لان هذا أمر ترفضه (إسرائيل) بسبب اشتراك الاتحاد السوفييتي وعدة أطراف عربية في المؤتمر. وكذلك أعلنت مصر في 29/3/1975 عن ينتها فتح قناة السويس في الخامس من حزيران القادم، وكان لهذا كله أثر في زيادة الضغط المعنوي على (إسرائيل).
التقى الرئيسان المصري والأمريكي في سالزبورغ (النمسا) في 2 حزيران. ويبدو أنهما اتفقا في هذا اللقاء على بعض النقاط المختلف عليها بين مصر و(إسرائيل). ثم قام اسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي بزيارة واشنطن في 11 حزيران واتفق مع الرئيس الأمريكي على إحياء المسعى الأمريكي وتنشيطه على أن تبدي (إسرائيل) مرونة أكبر لإنجاح مهمة كيسنجر. وقد صرح رابين في جلسة مغلقة عقدتها كتلة المعراخ* بعد عودته: “إننا نواجه خياراً قاسياً، فإما تسوية مرحلية صعبة وإما الذهاب إلى جنيف حيث ستطرح أمريكا مشروعاً دون تنسيق مع إسرائيل”.
وقد عقدت الحكومة الإسرائيلية عدة اجتماعات لمناقشة نتائج المحادثات التي أجراها رابين في واشنطن. وبعد مناقشات طويلة اتفق أعضاء الحكومة الإسرائيلية على قبول مبدأ الانسحاب من ممرات سيناء (متلا – الجدي) وإعادة حقول النفط في أبو رديس إلى مصر مقابل إعلان مصر إنهاء حالة الحرب مع (إسرائيل) وما يترتب عليها من تدابير وإجراءات. وأصدر مجلس الوزراء الإسرائيلي في 6 تموز بياناً يرحب فيه بمتابعة المباحثات وعودة السفير الإسرائيلي إلى واشنطن بعد أن كان قد استدعي إلى تل أبيب للتشاور ولكن البيان لم يتضمن دعوة وزير الخارجية الأمريكية إلى متابعة مساعيه بل ترك الباب مفتوحاً لذلك.
وقد صرح إسحاق رابين في 9 تموز بأن طابع الاتفاق وأمده وموضوع مع جهاز الانذار الالكتروني من العوامل التي تعرقل التوصل إلى اتفاق مع مصر. وأكد أن (إسرائيل) تطالب بأن يتضمن الاتفاق عناصر سياسية من بينها موضوع المقاطعة العربية (لإسرائيل) وبألا يكون الاتفاق ذا طابع عسكري محض. وأعلن في 14 تموز أن (إسرائيل) قدمت مقترحاتها إلى هنري كيسنجر ليقوم بدوره بنقلها إلى القاهرة. وقد تضمنت هذه المقترحات احتفاظ (إسرائيل) بجزء مهم من ممر الجدي وبجزء من ممر التلا، وعدم التنازل عن طريق الممرات – شرم الشيخ الذي تطالب به مصر. وكذلك تضمنت المقترحات أن يقوم مدنيون أمريكيون بتشغيل أجهزة الانذار المبكر في أم خشب (على مرتفعات ممر الجدي) مع فنيين إسرائيليين يعملون تحت علم الولايات المتحدة.
واستمر تبادل المقترحات بين مصر و(إسرائيل) بواسطة واشنطن إلى أن أعلن عن اعتزام كيسنجر القيام بزيارة جديدة للمنطقة. وقد بدأ كيسنجر جولته الجديدة في (إسرائيل) يوم 21 آب ثم انتقل إلى القاهرة في اليوم الثاني. وفي 23 آب زار دمشق ثم طار إلى (إسرائيل) في اليوم التالي. وقد تكرر انتقال كيسنجر بين (إسرائيل) ومصر في هذه الجولة حتى أعلن في مطلع أيلول سنة 1975 توقيع اتفاقية فصل القوات الثانية بين مصر و(إسرائيل). وقد تم التوقيع عليها بالأحرف الأولى في كل من الاسكندرية وتل أبيب.
تتألف الاتفاقية من ثلاث وثائق، الأولى سياسية تحدد المبادىء العامة العسكرية والسياسية مع مدى الانسحاب الإسرائيلي. والثانية ملحق يحدد الأسس التي ستسترشد بها مجموعة العمل العسكرية المصرية – الإسرائيلية في اجتماعاتها في جنيف لإعداد البروتوكول المفصل لتنفيذ الاتفاقية. والوثيقة الثالثة تحدد طبيعة الوجود الأمريكي في سيناء. ويضاف إلى هذه الوثائق المعلنة الثلاث أربع وثائق سرية.
وقد تضمنت الاتفاقية في نصوصها المعلنة ما يلي:
1) الوثيقة الأولى: أكدت أن النزاع في الشرق الأوسط لا يمكن حله بالقوة المسلحة بل بالوسائل السلمية، وأن هدف مصر و(إسرائيل) هو التوصل إلى تسوية سلمية مبنية على أحكام قرار مجلس الأمن رقم 338. وقد تعهد الطرفان في هذه الوثيقة بعدم استخدام القوة أو التهديد بها أو الحصار العسكري ضد الطرف الآخر والالتزام بوقف إطلاق النار. وكذلك تضمنت الوثيقة انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خط معين وتقدم القوات المصرية إلى خط معين آخر أيضاً، وتحديد مناطق محدودة السلاح ومناطق أخرى معزولة السلاح، مع استمرار قوات الطوارىء الدولية في تنفيذ مهامها.
وتم الاتفاق على تحديد تنفيذ هذه التحركات بواسطة ملحق خاص يعتبر جزءاً من الاتفاقية. وقد تضمنت النصوص بنداً ينص على السماح بمرور الشحنات غير العسكرية المتجهة من (إسرائيل) وإليها عبر قناة السويس. وقد اتفق الطرفان على اعتبار هذه الاتفاقية خطوة مهمة نحو السلام وابقائها سارية المفعول إلى أن تحل محلها اتفاقية جديدة.
2) الوثيقة الثانية: تتضمن شرحاً لصلاحيات قوات الأمم المتحدة وتنظيم الدخول إلى المنطقة العازلة وعمليات الاستطلاع الجوي لكل من الولايات المتحدة ومصر (وإسرائيل) وتحديد قوات الجانبين وتسليحها وتمركزها. فقد تقرر ألا يتجاوز عدد أفراد قوة كل من الطرفين المصري والإسرائيلي 8.000 فرد لا يملكون أسلحة بعيدة المدى يمكن لنيرانها أن تصل إلى خط الطرف الآخر. وتقرر عدم إقامة تحصينات جديدة وعدم وضع صواريخ مضادة للطائرات. ونصت الوثيقة على قيام قوات الأمم المتحدة بالتفتيش والتحقق من مراعاة هذه القيود.
3) الوثيقة الثالثة: وتضم المقترحات الأمريكية حول نظام الانذار المبكر الذي تعهدت الولايات المتحدة بإنشائه وإدارته الفنية. والنظام مؤلف من محطتي استكشاف للإنذار الاستراتيجي المبكر يشغل إحداهما المصريون والأخرى الإسرائيليون. وإلى جانبهما ثلاث محطات مراقبة للانذار التكتيكي المبكر في ممر الجدي يقوم بتشغيلها مدنيون من الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد نصت الوثيقة على أن الولايات المتحدة سوف تسحب أفرادها إذا شعرت بأن سلامتهم مهددة أو أن استمرارهم في عملهم لم يعد أمراً ضرورياً لازماً أو إذا طلب طرفا الاتفاقية منها ذلك.
أما الوثائق السرية الأربع فقد كانت:
1) الوثيقة السرية الأولى: تدور حول مؤتمر السلام في جنيف. فقد اتفق على أن يدعى إلى عقده ثانية بالتنسيق بين الولايات المتحدة (وإسرائيل) مع محافظة الولايات المتحدة على سياستها القائمة تجاه منظمة التحرير الفلسطينية* وأساسها عدم الاعتراف بالمنظمة أو التفاوض معها ما لم تعترف بحق (إسرائيل) في البقاء، وما لم تعلن قبولها قراري مجلس الأمن 242 و338. وسوف تنسق الولايات المتحدة مع (إسرائيل) مواقفها في مؤتمر السلام في جنيف وموقفهما من إشراك دول أخرى في المؤتمر. وستبذل الحيوية على أساس ثنائي، وستصوت ضد أي مبادرة في مجلس الأمن لتغيير الشروط التي قام عليها مؤتمر جنيف أو أي محاولة لتعديل قراري مجلس الأمن رقم 242 و338 بطريقة تجعلهما غير ملائمين لأهدافهما الأصلية.
وسوف تجعل الولايات المتحدة دور الدولتين العظمين في مؤتمر جنيف متسبقا مع ما تم الاتفاق عليه في مذكرة التفاهم بين حكومة الولايات المتحدة وحكومة (إسرائيل) في 20/12/1973. وسيتم تنسيق جهود طرفي المذكرة حتى يمارس مؤتمر جنيف عمله بطريق تتفق وأهداف المذكرة والهدف المعلن لمؤتمر جنيف، وهو فتح السبيل إلى اتفاق يجري التفاوض عليه بين (إسرائيل) وكل واحدة من جاراتها على حدة.
2) الوثيقة السرية الثانية: بشأن إمداد (إسرائيل) بالأسلحة الأمريكية. وتضمن حكومة الولايات المتحدة في هذه الوثيقة مواصلة إمداد (إسرائيل) بأنواع متطورة من المعدات والأسلحة، وتقديم المساعدات السنوية التي تمكن (إسرائيل) من مواجهة احتياجاتها العسكرية والاقتصادية.
3) الوثيقة السرية الثالثة: وتتعلق بالضمانات الأمريكية (لإسرائيل) . فالولايات المتحدة تضمن تأمين جميع احتياجات (إسرائيل) العسكرية والاقتصادية على المدى الطويل. وتنص الوثيقة على أن تتولى (إسرائيل) بنفسها الحصول على النفط، فإن عجزت تعمل الولايات المتحدة فور إخطارها بذلك من قبل (إسرائيل) على تأمين النفط وتوفير الوسائل اللازمة لنقله إليها لمدة خمس سنوات. وكذلك تقدم الولايات المتحدة إلى (إسرائيل) ما يعوضها عن فقدان حقول النفط في أبو رديس ورأس سدر ويساعدها على بناء خزانات ىحتياطي الوقود تكفيها لمدة سنة.
ولن تنفذ (إسرائيل) بنود الاتفاقية ما لم تف مصر بنودها كلها. وتقر الولايات المتحدة بوجهة نظر (إسرائيل) التي ترى أن أي اتفاق قادم مع مصر يجب أن يكون اتفاق سلام نهائياً. وفي حال خرق مصر بنود الاتفاقية تتشاور الولايات المتحدة مع (إسرائيل) لتصحيح هذا الخرق.
وسوف تصوت الولايات المتحدة ضد أي مشروع قرار في مجلس الأمن لا ينسجم والاتفاقية، وترفض الانضمام إلى أي جهود تضر بمصالح (إسرائيل)، بل وتعمل على منعها. وإذا كانت الولايات المتحدة ملتزمة أبدا ببقاء (إسرائيل) وسلامتها فإنها ستدرس مع الحكومة الإسرائيلية أمر تقديم المساعدة إليها ضد تهديد أي قوة دولية لأمنها. وستعد (إسرائيل) والولايات المتحدة خلال شهرين خطة طوارىء لإمداد الأولى بالعتاد العسكري اللازم في أي وقت يستدعي ذلك.
وتنص الوثيقة على أن التزام مصر بتنفيذ بنود الاتفاقية لا يتوقف على تصرف (إسرائيل) مع أي دولة عربية أخرى لأن الاتفاقية قائمة بذاتها. وتتفق الحكومتان الأمريكية والإسرائيلية على ضرورة بموجبه المفاوضات مع الأردن نحو تسوية سلمية شاملة، وعلى حق (إسرائيل) في المرور من مضايق باب المندب وجبل طارق، وحقها في الطيران فوق البحر الأحمر ومضايقه. وتبقى الاتفاقية في نظر الولايات المتحدة بكل أجزائها في حال انسحاب قوات الطوارىء الدولية يغير اتفاق مسبق بين طرفي الاتفاقية.
4) الوثيقة السرية الرابعة: وتضم تأكيد الحكومة الأمريكية لمصر بأنها ستبدل جهدها لإجراء المزيد من المفاوضات بين سورية و(إسرائيل)، وستساعد مصر في تنميتها الاقتصادية.
هذا من حيث الوثائق. وأما من حيث التنفيذ فقد عقدت مجموعة العمل العسكرية المشتركة عدا اجتماعات في جنيف انتهت فيها إلى صياغة البروتوكول الخاص بالإجراءات التنفيذية لفصل القوات. وقد وقع الطرفان على البروتوكول في جنيف 23/9/1975.
كان لاتفاقية فصل القوات بين مصر و(إسرائيل) آثار هامة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
1) الآثار السياسية:
(1) الطبيعة السياسية للاتفاقية: نصت المادة الأولى من الاتفاقية على أن النزاع بين مصر و(إسرائيل) وفي الشرق الأوسط “لا يتم حله بالقوة المسلحة بل بالوسائل السلمية”. وفي هذا النص تبديل جذري لطبيعة النزاع، وتعهد بتبني الوسائل السلمية ضد مجتمع بنى وجوده منذ البداية على العدوان والاستعمار واغتصاب الوطن الفلسطيني واحتلال أراض عربية أخرى بالقوة ولا يمكن – نتيجة لذلك – أن يتخلى عنها إلا بالقوة. ولا يشمل هذا التبديل النزاع بين مصر و(إسرائيل) فحسب بل يمتد – حسب نص المادة المذكورة – ليشمل النزاع في الشرق الأوسط كله. وفي هذا تجاوز مصري لإرادة الأطراف العربية الأخرى المعنية بالنزاع، وبخاصة الشعب الفلسطيني، وتحدث باسم هذه الأطراف بدون تفويض منها.
لقد تعهد الطرفان في الاتفاقية “بعدم استخدام القوة أو التهديد بها”. ومن المؤكد أن مثل هذا التعهد يدخل في إطار السياسية لأن القرار باستخدام القوة لحل أي نزاع ما هو إلا قرار سياسي أساساً ما دامت الحرب أداة من أدوات السياسة. ولهذا فان وضع عنوان “اتفاقية فصل القوات” على هذه الاتفاقية جاء قاصراً عن مضمونها وأحكامها. فالقوات قد انفصلت وتباعدت بعضها عن بعض في الاتفاقية الأولى (رَ: فصل القوات بين مصر وإسرائيل، اتفاقية 1974) التي كانت ذا طابع عسكري محض. وأما الاتفاقية الثانية فهي ذات طابع سياسي إلى جانب تدابير عسكرية مختلفة. وبفضل هذا الطابع يمكن القول أن العدو الإسرائيلي حصل على ما كان يسعى إليه منذ 1948، وهو التوصل إلى اتفاق سياسي بفتح الطريق أمام تبديل العلاقات مع الدول المجاورة كمدخل للتسلل الصهيوني الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي إلى المنطقة وممارسة دوره بأساليب الامبريالية الجديدة بعد أن بنى قاعدته المادية في فلسطين بأساليب الاستعمار القديم.
(2) تفتيت الصف العربي: يشكل تفتيت وحدة الصف العربي هدفاً إسرائيلياً دائماً. وقد جاءت الاتفاقية كمعول يفعل فعله في هذا التفتيت. فما إن وقعت مصر على الاتفاقية حتى بدأت “حرب عربية باردة” بين الحكومة المصرية من جهة والدول والقوى العربية الرافضة للاتفاقية من جهة أخرى.
وكان من أخطر نتائج الاتفاقية عزل مصر نفسها عن المعسكر العربي المناضل وترك سورية والثورة الفلسطينية تجابهان الهجمة الصهيونية وحدهما على خط المواجهة المباشر.
(3) إنهاء حالة الحرب: ليس في الاتفاقية نص صريح بشأن إنهاء حالة الحرب، غير أن المفاهيم السياسية والتدابير العسكرية التي اضمنتها الاتفاقية تؤدي إلى إنهاء حالة الحرب من الناحية الواقعية، ولا سيما أن مصر تخلت عن “حرية الخيار العسكري” حين تعهدت بعدم استخدام القوة أو التهديد بها وتعهدت بعدم اللجوء إلى الحصار العسكري مع أن قسماً كبيراً من أراضيها ظل بموجب الاتفاقية تحت الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي يبرر استخدام حق الدفاع المشروع لتحريرها عملاً بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
(4) كسر طوق عزلة (إسرائيل) السياسية: من المعروف أن عزلة (إسرائيل)، سواء في المحافل الدولية أو في مجال العلاقات الثنائية مع الدول الأخرى، ازدادت أثناء حرب 1973* وبعدها. وقد أعطتها الاتفاقية مادة دعائية ودبلوماسية ثمينة لتأكيد مرونتها و”اتجاهاتها السلمية”، ولاستعادة تعاطف الرأي العام العالمي معها.
(5) تنقية جو العلاقات بين (إسرائيل) والولايات المتحدة. حققت الاتفاقية هذا الهدف الذي تسعى (إسرائيل) دائماً إلى بلوغه، ولا سيما أن (إسرائيل) استطاعت بقبولها بالمساعي والمقترحات الأمريكية بشأن الاتفاقية أن تضمن وقوف الولايات المتحدة إلى جوارها وتمنع حدوث أي تحول في الموقف الأمريكي من الصراع العربي – الإسرائيلي.
(6) ضمان المصالح السياسية الأمريكية: جاءت الاتفاقية خطوة متقدمة في مجال تحقيق الولايات المتحدة أهدافها وحماية مصالحها في المنطقة، وذلك من خلال تطبيق سياستها في جعل الشرق الأوسط “منطقة متجانسة” عن طريق تهديم الحواجز القائمة بين المعسكرين العربي والإسرائيلي وتدجينهما “خطوة خطوة” حتى يتحقق “التجانس” المطلوب.
(7) التسلل الأمريكي إلى المنطقة: إن أول ما بلغت الانتباه بالنسبة للوجود الأمريكي في سيناء هو أنه غير مرتبط بالأمم المتحدة ولا بالمهام أو الصلاحيات المحددة لقواتها في سيناء، الأمر الذي يجعل الوجود الأمريكي تجاوز لدور الأمم المتحدة وتدخلاً خارجياً مباشراً من قبل الولايات المتحدة في النزاع العربي -الإسرائيلي.
2) الآثار العسكرية:
(1) تشكيل القوات المسلحة المصرية مركز ثقل في مجموع القوات العسكرية العربية. ولذا كان تحييدها قبل القتال – إن أمكن ذلك – أو إخراجها من المعركة بعد بدء القتال هدفاً أساسياً من أهداف الاستراتيجية للامبريالية – الصهيونية ومدخلاً عملياً لتركيز الهجوم المعادي على القوات العسكرية العربية الأخرى. ولم تتخل (إسرائيل) عن هذه الاستراتيجية في حروبها التي شنتها على الدول العربية. وآخر مثل على ذلك ما جرى في حرب 1973 حين وافقت مصر على وقف إطلاق النار في 22 تشرين الأول فخرج بذلك الجيش المصري من ساحة المعركة وأدى خروجه إلى تبدل ميزان القوى العربية – الإسرائيلية. وقد انعكس ذلك على سورية التي كانت تعد العدة – مع القوات العربية العاملة في الجبهة السورية – للقيام بهجوم استراتيجي مضاد يوم 23 تشرين الأول فاضطرت إلى قبول وقف إطلاق النار ليلة 23 – 24 تشرين الأول (رَ: حرب 1973).
لقد جاءت الاتفاقية لتكريس خروج القوات المسلحة المصرية من ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي من خلال الامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها.
(2) استبعاد القوات العربية في إفريقيا من المشاركة في المعركة: أفقدت الاتفاقية مصر موقعها الاستراتيجي في قلب الوطن العربي. فالجبهة المصرية كانت منطقة الحشد والعمليات للقوات المسلحة العربية في إفريقيا. ففي حرب 1973 اشتركت في القتال مع القوات المصرية قوات (برية وجوية) عربية ليبية وجزائرية ومغربية وسودانية. غير أن الاتفاقية استبعدت مثل هذه المشاركة وحرمت القوات العربية في إفريقيا من المشاركة في الحشد والعمليات في الجبهة المصرية نتيجة تعهد مصر بعدم استخدام القوة أو التهديد بها.
(3) تأمين الحيطة: لقد وسعت الاتفاقية حدود المنطقة العازلة بين القوات المصرية والإسرائيلية من 7 – 10 كم ( في الاتفاقية الأولى) إلى 30 – 40 كم. وقد أعطت الاتفاقية بذلك العدو هامش حيطة سكانياً وزمانياً يساعدة على تدبير أمر التعئبة والسوق والحشد. ويضاف إلى ذلك أن محطة الرصد والانذار المبكر التي احتفظ بها العدو في “أم خشب” (وتبعد 36 كم عن قناة السويس) ومراكز الرصد الأمريكية ستضمن للقوات الإسرائيلية نسبة عالية من الحيطة.
(4) مزايا عسكرية أخرى (لإسرائيل): فقد بقيت (إسرائيل) بموجب الاتفاقية مسيطرة على 87.5% من سيناء، ولم تستعد مصر سوى 5.5% وبقي 7% تحت سيطرة قوات الطوارىء الدولية.
وحافظت (إسرائيل) على المدخل الشرقي للممرات (متلا – الجدي). كما بقيت القوات الإسرائيلية على قمة “جبل محسة”، وهذا يمكنها من المراقبة والدفاع في الاتجاهين الشرقي والغربي. كما بقيت على جبل الجدي الواقع بين ممري متلا والجدي، وفي “ممر الجندي” القريب من رأس سدر. وكذلك احتفظت القوات الإسرائيلية بالمواقع الهامة المشرفة أو المسيطرة على مختلف أنحاء سيناء مما منحها مجموعة من المزايا تفوق بكثير المزايا التي حصلت عليها مصر من الاتفاقية.
(3) الآثار الاقتصادية:
(1) مرور البضائع الإسرائيلية في قناة السويس: تعتبر (إسرائيل) مرور سفنها وبضائعها عبر قناة السويس أمراً هاماً من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. فالقناة تشبه شرياناً حيوياً ينعش الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعيش أزمة مستمرة ناجمة عن طابعه الطفيلي والحصار الاقتصادي العربي وعدم التناسب بين الدخل القومي من جهة ونفقات الدفاع والأمين واستيعاب المهاجرين من جهة أخرى. ولولا المساعدات الاقتصادية الأمريكية وهبات المؤسسات الصهيونية والرأسمالية في بعض الدول لأعلنت (إسرائيل) إفلاسها.
(2) المساعدات الأمريكية: بلغ مجموع ما قبضته (إسرائيل) من واشنطن بعد الاتفاقية 2.3 مليار دولار، أي ما يعادل “4 ملايين ليرة إسرائيلية مقابل كل متر مربع من رمال سيناء” حسب قول جريدة هآرتس الإسرائيلية في 2/9/1975.
(3) تأمين النفط (لإسرائيل): تعهدت الولايات المتحدة بتوفير حاجات (إسرائيل) النفطية لمدة خمس سنوات، وتأمين نقل النفط إلى (إسرائيل)، وتقديم المساعدة المالية لبناء الخزانات وتكديس احتياط (إسرائيل) النفطي ما يكفي استهلاكها لمدة عام كامل. ويعتبر هذا الالتزام الأمريكي في الوثيقة السرية الأولى هاماً جداً على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي، ولا سيما بالنسبة (لإسرائيل) التي تمتلك ثروة نفطية ولا مصادر طاقة كهربائية كافية.
(4) الهجرة إلى (إسرائيل) ومنها: تشكل الهجرة إلى (إسرائيل) قاعدة بناء الكيان الصهيوني. فهي ضرورة أمنية واقتصادية معاً. وقد أصيبت الهجرة إلى (إسرائيل) بعد حرب تشرين بنكسة واضحة مبعثها انخفاض مصداقية الضمانات الأمنية الإسرائيلية وتزايد القوة العسكرية – الاقتصادية العربية، مما يضاعف احتمالات تعرض المجتمع الإسرائيلي لضربة عسكرية عنيفة تهزه من جذوره. غير أن الاتفاقية جاءت تمنح الكيان الصهيوني فترة هدوء لثلاث سنوات ستكون عاملاً من عوامل تشجيع الهجرة إلى (إسرائيل) والحد من النزوح وتشجيع هجرة رؤوس الأموال اليهودية إلى (إسرائيل) وزيادة الاستثمارات الأجنبية فيها.
المراجع:
- مؤسسة الدراسات الفلسطينية: الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية لعام 1975، بيروت.
- هيثم الأيوبي: اتفاقية فصل القوات الثاني في سيناء، بيروت 1975.