كان الصراع الاقطاعي من أبرز المظاهر التي اتسم بها تاريخ فلسطين والمشرق العربي في العصر الحديث (رَ: الإقطاع). وتقدم إمارة الشيخ ظاهر العمر الزيداني*، التي شغلت أحداثها حقبة طويلة من القرن الثامن عشر، صورة جلية لذلك الصراع، إذ اتسم بتعهدد جهاته على الصعيدين الداخلي والخارجي، وضوح أهدافه الاستقلالية.
والحديث عن الظواهرة، أو أولاد ظاهر العمر، لا يمكن طرحه بمعزل عن البناء الاجتماعي – السياسي للقبيلة العربية متمثلة “بالزيادنة” قبيلة الشيخ الظاهر، ولا بمعزل أيضاً عن البناء السياسي لإمارة الشيخ ظاهر العمر. وهو بناء استمد الكثير من لبناته من التركيبات الاقطاعية التي حفلت بها بلاد الشام تحت ظل الحكم العثماني.
وقد لاحظ بعض المؤرخين تطور قوة الشيخ ظاهر العمر، أو على حد تعبيرهم “تظاهرات أمور الشيخ ظاهر العمر”، بصورة تنسجم انسجاماً تاماً مع “عملية النمو التلقائي” التي يحدثها عامل خارجي حاسم، والتي تصادف كثيراً من القبائل العربية، فجعلها فيما بعد تلعب دوراً متميزاً في التطورات السياسية لمنطقة ما. ولأجل التدليل على ذلك نشير إلى قول محمد كرد علي: “في أواسط القرن الحادي عشر (الهجري) جاء إلى جهات فلسطين الشمالية من الحجاز رجل يدعى زيدان، وله ولد اسمه عمر، ولعمر ولدان اسمهما ظاهر وسعد، ظعنوا عن ديارهم لخصومة، فجاؤوا وضربوا خيمتهم في الأطراف الشمالية من سهل البطوف*، في أرض يقال لها مسلحين من عمل نابلس”.
وتوضح المصادر التاريخية بشكل جلي الطريق الذي تفاعلت فيه القيم القبلية، بالتركيبات الإقطاعية القائمة في بلاد الشام آنذاك، فامتزجت خلالها الأبوة القبلية بالتقاليد والفروض الإقطاعية. يقول الأمير حيدر الشهابي: “فولى الشيخ عمر على تلك البلدان إلى أن آن الأوان، ومات الأمير بشير، بقي الشيخ عمر حاكماً، وتزوج جملة نساء، وأتاه منهن ذكور. وطلع منهم ذكر مشهور في الشجاعة والقوة والبراعة…”
ويزيد محمد كرد علي الصورة السابقة إيضاحاً إذ يقول: “وكفله سكان عرابة لدى والي صيدا، فالتزم الجباية. وكان بعض السنين يتلكأ عن عن أداء ما تعهد به، وأحياناً يؤدي للدولة حقها حتى نمت ثروته، وأقام في عكا*، فجعل أحد (تجعله بعض المصادر ابنه) سعدا في دير حنا*، وأولاده علي في صفد*، وعثمان في شفا عمرو*، وسعيد في الناصرة* وجهات مرج ابن عامر*، وصليبي في طبرية*، وأحمد في تبنة وجبل عجلون…”
وليس هناك شك في أن ولاء أولاد الشيخ ظاهر العمر لسلطة أبيهم كان يقوم على أساس قبلي. على أنهم كانوا ملزمون في وساطتهم نيابة عن والدهم، مما يجعلهم في الواقع شركاء في إدارة أجزاء من إمارة أبيهم الإقطاعية.
وقف الظواهرة مع الشيخ الظاهر في السراء والضراء، ودافعوا عن القلاع التي أوكل إليهم الدفاع عنها بكل بسالة. وكان الشيخ مصطفى الظاهر شقيق الشيخ ظاهر أول من قضى نحبه على يد والي الشام سليمان باشا العظم. ولكن الوالي دفع حياته ثمناً لذلك، فقد توفي في عكا في ظروف غامضة عام 1156هـ/ 1745م وهو يجد في طلب الشيخ الظاهر. وأشارت بعض المصادر إلى أن سعدا حاكم دير حنا كان يقف وراء عملية اغتيال الباشا، وأنه دس له السم بعد أن فشل في إقناعه بالتخلي عن محاولاته لإخضاع الشيخ ظاهر وأولاده.
واشترك الظواهرة في حملات الشيخ الكبير، وأهمها تلك التي أدت إلى سقوط الشام بأيدي عساكرهم وعساكر محمد بك أبو الذهب* عام 1184هـ/ 1770م، وكانت تلك الذي أدت إلى هزيمة عساكر عثمان باشا الكرجي عند بحيرة الحولة* في وقت لاحق عن السنة المذكورة.
والواضح أن أبناء الشيخ ظاهر العمر كانوا يتصرفون بالأموال ولأهالي تصرفاً سيئاً في أحيان كثيرة. وكان التنافس فيما بينهم كثيراً أحياناً، بل بلغ الأمر بمحمد بك أبو الذهب أن اتخذ من فساد أبناء الشيخ ظاهر العمر، وطغيانهم، واستشارتهم بالأموال حجة لتبرير أنسحابه من بلاد الشام بعد احتلالها عام 1184هـ، وأبلغ سيده على بك الكبير*(حاكم مصر) الأمر المذكور.
وصل الظواهرة إلى أوج قوتهم خلال السنوات العشر الأخيرة من حياة والدهم الشيخ ظاهر. فقد بلغ والدهم من العمر عتيا، وصاروا إلى التصرف بالإمارة تصرفاً يكاد يكون مطلقاً. بل بلغ الأمر ببعضهم أنه تجاوز الحدود المسموح بها، فتطاول على سلطة والده الشيخ. وفي وضع فريد نكصت فيه القيم القليلة وتظاهرت فيه التطلعات الإقطاعية بدا واضحاً أن سلطة الشيخ القائمة على مزيج من القيم القبلية والفروض الإقطاعية كانت قادرة على سحق عثمان الظاهر الذي سولت له نفسه التمرد على أبيه (1180هـ/1766م).
في عام 1187هـ/ 1773م قتل الشيخ صليبي الظاهر مع كوكبة من الفرسان العرب الذين بعثهم الشيخ الظاهر بصحبة حليفه علي بك الكبير، وذلك أثناء حملة الأخير على مصر لانتزاعها من مملوكه محمد بك أبو الذهب.
وأخذت قوات محمد بك أبو الذهب تدك حصون الشيخ ظاهر وقلاعه، التي كان يدافع عنها أبناؤه (1188هـ/ 1774 – 1775م) فتم تدمير دير حنا، ودير مار الياس، وبضعة حصون أخرى.
وفي عام 1189هـ/ 1775م قتل الشيخ ظاهر العمر أثناء محاولته الهرب من عكا التي كانت تهاجمها قوات بحرية عثمانية بقيادة “قبودان” حسن باشا الجزائري. وقد أشارت المصادر إلى أن أولاد الشيخ الهرم تفوقوا عن والدهم، ولم يستطيعوا الوقوف معه في محنته الأخيرة.
وفي الأشهر التالية اشتركت عساكر حسن باشا الجزائري ووالي صيدا الجديد أحمد باشا الجزار*، ووالي الشام محمد بك العظم، في مطاردة آل الظاهر ودك حصونهم بهدف اجتثاث شأفتهم نهائياً. يقول حيدر الشهابي: “وتفرق بنو الظاهر في كل ديار، وغاصت أحزانه في بطون القفار. وقد قبض الوزير المذكور (حسن باشا) على كثير منهم، وشدهم عنده في الأسر والاعتقال”.
وذكرت المصادر أسماء الشيخ عثمان الظاهر والشيخ أحمد الظاهر والحسن والحسين ولدي الشيخ علي الظاهر من بين المقوض عليهم. كما ذكرت أن حسن باشا الجزائري أمر يقفل أسيره الشيخ أحمد الظاهر بسبب تعريض الأخير به. وذكرت أيضاً أن محمد باشا العظم تمكن بعد جهود مضنية من الشيخ علي الظاهر، ثم بعث رأسه إلى الآستانة.
وعلى الرغم من تلك الجهود التي بذلت للقضاء على آل الظاهر فإن ذلك لم يكن ممكناً، وبقي بعضهم مصدر ازعاج للسلطات العثمانية، ورغم أن الشيخ صالح الظاهر قدم المساعدة لبونابرت (1799م) نكاية بأحمد باشا الجزار الذي بطش بأهله وذويه.
حكم الظواهرة فلسطين قرابة ثمانين عاماً. ويروى أن نفوذهم امتد من حدود جبل عامل شمالاً إلى أطراف جبال القدس* جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً إلى جبال عجلون شرقاً، وأنهم كانوا يحكمون وفقاً للتقاليد القبلية.
أما جهودهم العمرانية فهي جهود يشار إليها بالبنان دائماً. إذ قام الشيخ ظاهر العمد بإعادة بناء ما خرب من القلاع والحصون والأديرة خلال الحروب الصليبية. وشيد ظاهر العمر أسوار عكا الجديدة (رَ: الأسوار)، وجامع محله الجريئة فيها. وبنى الشيخ علي الظاهر قلعة صفد. كما نسب إلى الشيخ صليبي الظاهر بناء سرايا الصقرية في طبرية، وتعمير الجامع الواقع إلى الجنوب منها. وبنى الشيخ عثمان الظاهر قرية شفا عمرو، وشيد الشيخ أحمد الظاهر قلعة تبنة. وأخيراً نسب إلى الشيخ سعد الظاهر إعادة بناء قلعة دير حنا وديرها، وبناء الجامع الموجود فيها حتى الآن.
المراجع:
– حيدر الشهابي: الغرر الحسان في أخبار أبناء الزمان، بيروت 1969.
– محمد كرد علي: خطط الشام، دمشق 1925.
– أحمد البديري الحلاق: حوادث دمشق اليومية (1154 – 1175هـ/ 1741 -1762م)، القاهرة 1959.
– عبد الرحمن الجبرتي: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، القاهرة 1964.
– ميخائيل مشاقة: مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان، القاهرة 1908.
– حبيب السيوفي: سورية ولبنان في القرن الثامن عشر (عرض لرحلة فولني)، صيدا 1948.
ظاهر العمر الزيداني (قلعة -):
رَ: دير حنا (قرية -)